المجزوءة الأولى: الشعر العربي الحديث:
سوف يبين الحق:
تقديم:
لقد قصت سنة التغيير أن يبعث الشعر العربي من جديد بعدما عاش قرونا من الضعف والانحطاط والجمود، وكان ذلك خلال عصر النهضة في أواخر القرن 19 إذ شهدت البلاد العربية نهضة على مستوى الفكر والثقافة عامة ومجال الادب والشعر خاصة ،فظهر تيار احياء النموذج محاولا شعراءه احياء القصيدة الشعرية من جديد والعودة بها الى القوة والنظارة وذلك بتقليد ومحاكاة الشعراء الفحول والعودة الى الذاكرة الشعرية القديمة.
ومن العوامل المساهمة في ظهور هذا التيار الشعري: حملة نابليون على مصر، ارسال بعثات طلابية الى الخارج، إضافة الى ظهور الطباعة والصحافة ، ومن روادها: احمد شوقي- حافظ إبراهيم- مختار الفاسي- مختار السوسي- معروف الوصافي وصاحب القصيدة موضوع التحليل محمود سامي البارودي.
صاحب النص:
وهو شاعر مصري ولد سنة 1838 وتوفي سنة 1904، نظم الشعر منذ صباه واتجه الى محاكاة النماذج الشعرية لكبار الشعراء العرب القدامى من أمثال: المتنبي وابي تمام التحق بالمدارس العسكرية فتخرج منها ضابطا ورقي الى ارفع المناصب السياسية، شرك في الثورة العرابية التي انتهت بالفشل فكان مآله النفي الى جزيرة سر نديب التي قضى بها 17 سنة.
فإلى أي حد جسدت هذه القصيدة تيار احياء النموذج؟ وماهي خصائصها الدلالية والتعبيرية والفنية؟
أنشطة الملاحظة:
نوعية القصيدة وقراءة العنوان:
من خلال ملاحظتنا الأولية لشكل القصيدة يتضح لنا انها قصيدة عمودية البناء ذات شطرين متناظرين وقافية وروي موحدين، وجاءت بعنوان "سوف يبين الحق" وهو عبارة عن جملة فعلية مكونة من ثلاث كلمات:
- سوف يبين الحق: تدل على المستقبل
-يبين: يظهر، يتجلى، يتضح
-الحق: العدل والصواب والحقيقة
ويدل هذا العنوان على تفاؤل الشاعر بزوال الباطل وظهور الحق.
فرضية النص والمضامين:
ومن خلال هذا العنوان والبيتين الأول والثاني من القصيدة يمكن ان نفترض ان القصيدة ستحدث عن معاناة الشاعر في الجزيرة سر نذيب واشتياقه لأهله.
بعد قراءتنا للنص يتضح انه يضم اربع احداث دلالية:
- الوحدة الأولى: (من البيت الأول الى البيت 5): يتحدث الشاعر عن حنينه لابنته واشتياقه للاجتماع باهله.
- الوحدة الثانية:(من البيت 6 الى البيت 10): صبر الشاعر على محنته ولجوؤه الى الله تعالى.
- الوحدة الثالثة:(من البيت 11 الى البيت 19): من خلال هذه الابيات يفتخر الشاعر بإنجازاته مبرزا مدى فصاحته وشجاعته.
- الوحدة الرابعة:(من البيت ض20 الى البيت الأخير): مواساة الشاعر لنفسه وتشبته بالأمل في ظهور الحق وزوال الشدة.
أنشطة التحليل:
الحقول الدلالية:
يتوزع معجم القصيدة الى ثلاثة حقول دلالية:
-الحقل الدال على المعاناة: الطيف، خواطر، السمادر، بعدما بيني وبين احبتي، كره...
-الحقل الدال على الصبر والتفاؤل: صبرت، صابر، يركن الى الله، سوف بين الحق، ماهي الى غمرت...
-الحقل الدال على الافتخار: ملكت العلى، انا المرء، قؤول، صؤول...
وتربط بين هذه الحقول علاقة سببية حيث ان المعاناة هي التي أدت الى صبر الشاعر على الشدائد وبالتالي افتخاره بمدى شجاعته وصبره.
لغة القصيدة:
وقد وصف الشاعر لغة فصيحة رصينة جزلة، الفاظها مستقاة من القاموس اللغوي القديم منها: القرى، صؤول، السمادر، فواغر، قؤول...
الصور الشعرية:
كما توسل الشاعر بمجموعة من الصور الشعرية:
-التشبيه: في البيت الثاني "تمثلها الذكرى بعيني كأنني اليها على بعد من الأرض ناضر"
-الاستعارة: في البيت التاسع " ومن لم يدق حلو الزمان ومره" حيث استعار الشاعر صفتي الحلاوة والمرارة من الطعام واسندهما الى الزمان دلالة على تقلبات الزمان.
في البيت السابع عشر "أفواه المنايا فواغر" حيث استعارة الافواه من الانسان واسندها الى المنايا دلالة على تعدد أسباب الموت التي تحيط بالشاعر وتتربص به. وقد أدت هذه الصور الشعرية وظيفة جمالية تعبيرية، اذ اضفت طابعا جماليا على القصيدة كما ساعدت الشاعر في التعبير عن معاناته.
المحسنات البديعية:
إضافة الى الصور الشعرية وضف الشاعر جملة من المحسنات البديعية:
-الجناس: باسم/باسر، فؤول/صؤول،
-الطباق: فاضح\ساتر ، الوجد/العدم ، غائب/ حاضر...
وقد اضفت هذه المحسنات البديعية جمالا ولرونقا على القصيدة.
الجمل الخبرية والانشائية:
ونلاحظ هيمنة واضحة للأسلوب الخبري في القًصيدة لان الشاعر يخبرنا عن معاناته في المنفى، ومن امثلة هذا الأسلوب " تأوب طيف من سميرة زائر"،" صبرت على قرب لما قد اصابني"... الا ان القصيدة لا تخلو من بعض الأساليب الانشائية التي مكنت الشاعر من التعبير عن احاسيسه كأسلوب النداء في البيت الرابع" فيا بعد ما بيني وبين احبتي" وأسلوب النهي في البيت الرابع عشر" فلا تحسين المال ينفع ربه". أسلوب الاستفهام في البيت الثاني والعشرين" واي حسام لم تصبه كلالة".
الإيقاع الخارجي:
وادا انتقلنا الى دراسة مكونات الإيقاع الخارجي للقصيدة نجد انها تنتمي الى احد البحور الخليلية الستة عشر وهو البحر الطويل، كما وظف الشاعر قافية موحدة مطلقة، لأن رويها متحرك، ورويا موحدا هو حرف الراء.
الإيقاع الداخلي:
أما فيما يخص بنية الإيقاع الداخلي فقد تألفت من مجموعة من المتجانسات الصوتية الناتجة عن ظاهرتي التكرار والتوازي.
فمن أمثلة التكرار:
- تكرار الحروف: الطاء، الراء، الياء، الواو.
- تكرار الكلمات: طيف، مال، المجد.
- تكرار الصيغ الصرفية: فعول (قؤول، صؤول) فاعل (باسر، باسم، صابر...).
- تكرار التطابق: الطيف ـ طيف / المال ـ المال / المجد ـ المجد.
- تكرار التجانس: فل ـ فل.
- تكرار الترادف: الفقر ـ العدم / الغنى ـ الوجد / الزمان ـ الدهر / طورا ـ تارة...
ومن أمثلة التوازي:
- وأي حسام لم تصبه كلالة
وأي جواد لم تخنه الحوافر
- قؤول وأحلام الرجال عوازب
صؤول وأفواه المنايا فواغر
- فلا أنا إن أدناني الوجد باسم
ولا أنا إن أقصاني العدم باسر
وهو توازي صرفي تركيبي.
وقد أسهم الإيقاع بنوعية الداخلي والخارجي في إضفاء طابع موسيقي على القصيدة والتأكيد على معاناة الشاعر.
تركيب:
إذا ومن هذا خلال ما سبق يتبين أن قصيدة "سوف يبين الحق" لشاعر محمود سامي البارودي قصيدة تقليدية يترجم فيها الشاعر معاناته جراء ما تعرض له من ظلم واتهام والخيانة مما دفعه الى استعراض خصاله وأمجاده متماشيا مع غرض النص. وظف الشاعر معجما غنيا بالألفاظ الدالة على المعاناة والالفاظ الدالة على الصبر والالفاظ الدالة على الفخر، كما استعانة بجملة من الصور الشعرية كالاستعارة والتشبيه والمحسنات البديعية كالجناس والطباق إضافة الى اعتماده على البحر الطويل والقافية والروي الموحدين مما زاد للقصيدة رائقا وجمالا وأضفى عليها طابعا موسيقيا.
إذا فقد جسدت هذه القصيدة تيار احياء النموذج خير تجسيد شكلا ومضمونا وتعبيرا، فمن حيث الشكل: اعتمد الشاعر البناء العمودي في القصيدة العربية، ومن حيث المضمون: نجد أن القصيدة تندرج ضمن غرض الفخر وهو أحد أقدم الأغراض الشعرية، أما من حيث أساليب التعبير: فقد استوحى صور الشعرية من الذاكرة الشعرية موظفا الاستعارة والتشبيه كما استعمل لغة فصيحة رصينة جزلة ألفاظها مستسقاة من القاموس اللغوي القديم، ناهيك عن التزامه من الناحية الايقاعية بالأوزان الخليلية.
شكرا لك على المعلومات
ردحذف